وما إن يتهاوى صوت حتى يأتيك صوت آخر, ولا يخلو المكان من تلوث صوتي طيلة النهار ومعظم الليل.
فها هي الكمبريسة في كل مكان تناطح الصخر والزفت من اجل اختراقه بقوة وعلينا أن نستمع إلى زئيرها في كل شارع فها هي حرة تحفر بحثاً عن منهل خرب أو تمديدات مهترئة, وها هي مره أخرى تحفر الشوارع لتركيب أعمدة أو لإزالة شيء. بل إنني اضطررت إلى سماع الكمبريسة فوق السطوح في قاعات أحدى الجامعات وعلى مدى عام كامل والغريب أن أحداً لم يستغرب, فكل شيء بدا طبيعياً, فمن لا يحب الموسيقى بالكمبريسة, ومن يكره صوت الازميل والدريل يثقب أو يكسر لا فرق إن كان هناك بشر حولها أم لا.
وبالقرب من قاعات المحاضرات كان هناك موقف مجمع سيارات للطلبة, وبالطبع ساهمت هذه السيارات في إصدار سيمفونية لا كمثلها شيء. سيارات لها نقيق وفحيح ونباح مثل نباح الكلاب بالضبط وبنغمه مرتفعه, والغريب أن لا أحد يجد في ذلك مصدراً للإزعاج. فالأمر طبيعي جداً.
وفي الحديث عن السيارات نجد أن السائق العربي يخاطب سيارته قبل أن يصل إليها فتزعق مرحبة به وتضيء جوانبها فرحاً به, وعندما يقترب أحد الغرباء من المكان تنطلق حنجرة السيارة بصراخ عال للإعلان والتحذير من محاولة خطفها أو سرقتها.
ولقد نشأ عن علم الصراخ فرع جديد هو علم التزمير. فلقد طور العرب بعبقريتهم المشهود لها عالمياً لغة خاصة بالزامور وتفوقوا على كل الأمم. فالتزمير يكون من السائق لمناداة أفراد الأسرة أو الأولاد والبنات للإسراع في الركوب, والتزمير عند عودة السائق للإعلان لأفراد الأسرة وربة البيت أنه وصل بحفظ الله ورعايته وأن على ربة البيت أن ترسل أحد أفراد العائلة لمساعدة الأب في حمل الأغراض. وحين يبدأ العربي بالسواقة يمارس التزمير بمناسبة وبدون مناسبة. فهو يرسل مزاميره مدوية لمن هو أمامه ومن خلفه ومن هو في جانبه على الطريق يحذر من حوله انه هو ولا أحد غيره صاحب الحق في الشارع. يزمر قبل أن تفتح الإشارة الضوئية ويزمر لمن يريد أن يحاول الوقوف أمامه منذراً إياه, ويزمر لمن يبطئ في سيره على يمين الشارع. بل أنه يزمر إلى الفتيات اللواتي يقفن على يمين الشارع أو يسرن على الرصيف في محاولة للإعلان عن وجوده الرجولي.
في فنون التزمير يقوم العرب المعاصرون بالتعبير عن كل شيء ولا أدري إن كانت رفوف المكتبة العربية القديمة تحتوي على عناوين مثل "فنون التعبير من خلال التزمير".
يسير العربي بسيارته محاولاً تخويف من أمامه صاحب السيارة الصغيرة وكأنك في بحر يخيف فيه السمك الكبير السمك السردين. فصاحب الشاحنة أو القلاب لا يتورع عن إصدار صوت مخيف من بوقه يجعلك تجفل من على بعد وربما ترتبك ومن المؤكد أن الذي اصدر الصوت المخيف يفرح ويستمتع لأنه أخافك وخاصة حين تنظر في المرآة الصغيرة وتشاهد حجم سيارته الضخمة الذي يرافقه مجموعة من الإضاءات التي تهدف إلى إرعابك وقذف الخوف إلى أعماقك.
في التزمير نعبر عن الانزعاج